نبع الوفاء

 "نبع الوفاء


"


كانت زهرة فتاة طيبة القلب، تمشي في الحياة بابتسامة دافئة وقلب مليء بالحب النقي. كانت تحمل معها أملًا دائمًا أن يكون العالم أفضل إذا تحلى كل شخص بطيبة قلبها، وكان هذا الإيمان هو قوتها الدافعة في كل لحظة من حياتها. كانت ترى في كل فرد إنسانًا يمكن أن يُصبح أفضل إذا وجد الدعم والمساعدة التي يحتاجها. ولذلك كانت زهرة تقدم دائمًا كل ما تستطيع لمساعدة الآخرين، سواء كان ذلك وقتًا أو اهتمامًا أو حتى مشاعر دافئة. لم تكن تنتظر مقابلاً، بل كانت تجد سعادتها في رؤية الآخرين سعداء. وكان هذا هو مصدر قوتها وحبها للحياة.


كان لديها صديقة مقربة جدًا، هي سارة، التي كانت بالنسبة لها أكثر من مجرد صديقة؛ كانت زهرة تعتبر سارة شقيقتها التي لم تلدها أمها. كانت تؤمن أن هذه العلاقة لا يمكن أن تتزعزع أبدًا. كانت سارة الشخص الذي تمنحه زهرة كامل ثقتها، وكانت ترى فيها الصديقة المثالية التي تشاركها كل لحظات حياتها، من الفرح والحزن إلى التحديات والنجاحات. كانت زهرة تظن أن صداقتهما كانت على أساس من الوفاء والحب المتبادل الذي لا يمكن أن يُفقد أو يتغير أبدًا. كانت تؤمن بأن كل لحظة من صداقتهما هي أساس لبناء ذكريات جميلة ومستقبل مشترك.


لكن مع مرور الوقت، بدأ شيئًا غريبًا يحدث في العلاقة. في البداية، كانت الأمور بسيطة، تغييرات صغيرة قد تلاحظها زهرة، ولكنها كانت تتجاهلها دائمًا. كانت سارة تظهر اهتمامًا ملحوظًا في بعض الأوقات، لكنها سرعان ما تختفي في أوقات أخرى، وكأنها تتنصل من العلاقة عندما لم يعد هناك شيء في صالحها. ومع ذلك، كانت زهرة تبرر سلوك سارة في ذهنها، وتقول لنفسها إن الحياة مليئة بالضغوطات، وإن الجميع يمر بفترات صعبة، لذلك ربما كانت سارة بحاجة إلى بعض المساحة.


لكن الأيام بدأت تمر، وتكررت تلك المواقف بشكل أكبر وأوضح. كانت سارة تختفي لفترات طويلة، وتظهر فقط عندما تكون بحاجة لشيء ما. في البداية، كانت زهرة تحاول تفسير ذلك على أنه أمر عارض، لكن مع مرور الوقت، بدأت تشعر أن العلاقة لم تعد كما كانت. كان هناك شيء مفقود، وكان قلب زهرة يشعر بشيء غريب، شيء يشبه الخيانة، لكنه لم يكن يستطيع تفسيره تمامًا.


ثم جاء اليوم الذي كان بمثابة الصاعقة في حياة زهرة. كانت تتوقع أن يكون هذا اليوم هو آخر ما يمكن أن يمر بها، فقد قررت سارة فجأة أن تبتعد. دون أن تُعطيها أي تفسير منطقي، أرسلت لها رسالة قالت فيها:

"لم أكن أحتاجك كما كنتِ تعتقدين، وكما كنتِ تأملين. كانت علاقتنا مجرد فترة عابرة في حياتي، وأنا الآن بحاجة للابتعاد. لم أكن صادقة معك في بعض الأحيان، وكان من الأفضل لكلينا أن نترك بعضنا البعض."


كانت كلمات سارة مثل طعنات في قلب زهرة. قرأتها مرارًا وتكرارًا، وكأنها لم تصدق ما تقرأه. كيف يمكن لشخص كانت تعتبره شقيقًا روحيًا أن يرحل هكذا؟ كيف لشخص منحته كل ما لديها من حب واهتمام أن يتركها بهذه الطريقة؟ كانت في البداية غارقة في حالة من الإنكار، غير قادرة على تصديق أن هذا يحدث. لم يكن لديها كلمات تشرح بها ما تشعر به. كان قلبها يعصف بالألم، وكانت كل مشاعرها تتناثر في الهواء مثل أوراق الشجر في الخريف.


ومع مرور الوقت، بدأ الألم يصبح جزءًا من حياتها. كانت زهرة تشعر وكأنها فقدت جزءًا من نفسها، جزءًا كان يمثل الأمان والحب والوفاء. ولكن بالرغم من كل ما كانت تشعر به من خيبة أمل، فإن زهرة قررت أن تتخذ قرارًا قويًا. قالت لنفسها:

"لا يمكن لهذا الألم أن يحدد مصيري. لا يمكن لهذه الخيانة أن تعرقل مسيرتي. أنا قوية بما فيه الكفاية لأكون صادقة مع نفسي، ولا يمكنني أن أسمح لهذا الجرح أن يظل يثقلني."


كانت زهرة تعلم أن الحياة لا تنتظر أحدًا، وأنها لا تستطيع أن تقف عند نقطة الخذلان. قررت أن تعيد بناء نفسها من جديد، على أساس أن الحب لا يجب أن يُمنح للجميع، وأن الوفاء يجب أن يكون موجهًا لأشخاص يستحقون ذلك. كانت تعرف في أعماقها أن الحب يبدأ من احترام الذات، وأنها لا يمكن أن تظل أسيرة لحب غير متبادل أو علاقة مفرغة من المعنى.


بدأت رحلة جديدة، رحلة من إعادة اكتشاف الذات. بدأت زهرة تعود إلى نفسها، تكتشف شغفها وحبها للأشياء التي كانت قد نسيتها في خضم حياتها المزدحمة بعلاقتها مع سارة. بدأت تجد السعادة في الأشياء البسيطة: في قراءة الكتب، في العناية بنفسها، في السعي وراء أهدافها الشخصية. كانت تعود إلى الحياة بكل قوتها، وكل طاقتها، وكل ما تبقى لها من أمل. بدأت تجد في نفسها القوة التي كانت قد غيبتها لأجل الآخرين.


ومع مرور الوقت، أصبحت زهرة أقوى وأكثر حكمة في اختياراتها. تعلمت أن الوفاء ليس شيئًا يُفرض على الآخرين، بل هو شيء ينبع من القلب ويجب أن يُمنح بعناية. تعلمت أن الحب لا يجب أن يُمنح لمن لا يستحقه، وأن أفضل طريقة للاحتفاظ بسلامك الداخلي هي أن تُعطي حبك لمن يقدره بصدق. أصبحت أكثر قدرة على التعامل مع خيبات الأمل، وأكثر استعدادًا لتحقيق أهدافها التي كانت قد أجلتها في السابق.


وفي النهاية، أصبحت زهرة تشعر بأنها كانت في حاجة لهذا التحدي في حياتها. فقد علمتها التجربة أن الحياة لا تُقاس بمقدار الحب الذي نمنحه، بل بمقدار ما نمنحه لأنفسنا من حب واهتمام. أدركت أن الطريق إلى السعادة لا يتطلب وجود شخص آخر ليكملها، بل يكفي أن تكمل أنت نفسك وتحقق أحلامك بنفسك. وبالرغم من كل الخيبات، بقي قلب زهرة مليئًا بالحب، ولكن الآن كان هذا الحب موجهًا لها أولًا، ثم للآخرين الذين يقدرونها ويعرفون قيمتها.



كـ/ مريم سعيد "حبيسة الماضي"

إرسال تعليق

أفرحنا بتعليقك هنا

أحدث أقدم