حين خانتني الحياة

حين خانتني الحياة



 حين خانتني الحياة فوجدتُ نفسي، في زاوية ما من هذا العالم، كانت هناك طفلة ترى الحياة بعيون لم يخدشها الألم بعد، كانت تضحك ببراءة، تحلم دون قيود، وتؤمن أن العالم مكان آمن لمن يحمل قلبًا صادقًا، لم تكن تملك صديقة تشاركها تلك الأحلام، لكنها لم تشعر بالوحدة؛ كانت تنتظر، واثقةً أن القدر لن يبقيها وحيدة إلى الأبد، كانت أيامها تسير بإيقاع ثابت؛ تستيقظ كل صباح، تصلي، تذهب لدروسها، تعود لتذاكر، وفي المساء، تهرب من صخب الحياة إلى دفء جدتها؛ هناك كانت تجد الطمأنينة التي لا تمنحها الأيام، كانت تشعر أن العالم لا يزال بخير طالما ذلك الحضن يحتضنها، وفي يوم عادي، كأي يوم آخر، نشب خلاف بينها وبين إحدى زميلاتها في الدرس، لم يكن شجارًا يُذكر، لكن ما حدث بعده كان غير متوقع. تحوَّل الخلاف إلى صداقة، والصداقة إلى شيء أعمق... رابطة لم تعتقد أن شيئًا قادرٌ على كسرها، لم تكن مجرد رفيقة، بل كانت نصفها الآخر، مرآتها، الأخت التي لم تنجبها أمها، لكن الأيام، كما تفعل دائمًا، قلبت الصفحة؛

كبرتا، وذهبت كلٌّ منهما في طريق مختلف، لم يكن البُعد في البداية سوى مسافة، لكنه تحول إلى جدار، لم تعد المحادثات كما كانت، لم تعد اللقاءات سهلة، ولم تعد الوعود تُحفظ كما نُطِقت، حاولت أن تُنكر الحقيقة، أن تتشبث بما تبقى، لكنها شعرتُ أن شيئًا ما ينكسر بهدوء... شيئًا لن يعود كما كان. وفي خضم ذلك، جاء الألم الأكبر؛ رحلت جدتها، رحلت دون إنذار، دون وداع، كانت تحسبها أبديّة، لكنها أدركت الآن أن كل ما تحبه يمكن أن يُنتزع منها في لحظة، شعرتُ أن الحياة ضاقت، أن كل شيء فقد معناه، لم يمضِ وقت طويل حتى جاءت الطعنة الثانية... خيانة لم تتوقعها من أقرب الناس إلى قلبها؛ تبدّلت، لم تعد كما كانت، تحوَّلت من شخص يملؤه الطموح إلى شخص لا يرى أي معنى لأي شيء. لم تعد تحلم، لم تعد تهتم بدراستها، لم تعد تهتم حتى بنفسها، أصبحت غريبة حتى عن ذاتها، كأنها لم تعد تعرف من تكون؛ لكن وسط هذا الانهيار، كان هناك شيء واحد لم يخذلها... القلم، بدأت تكتب، لا لأنها تريد ذلك، بل لأنها لم تجد وسيلة أخرى لتخرج ما في داخلها، نزفتُ مشاعرها فوق الورق، سطرتُ حكاياتها دون أن تدري إن كانت تحكي قصةً أم تصرخ ألمًا، ومع مرور الأيام، أدركت أن الألم يمكن أن يكون وقودًا، وأن الانكسار قد يكون بداية لا نهاية.

وهكذا، وُلدت من جديد.

لم تعد بحاجة إلى أحد يكملها، لم تعد تبحث عن الأمان في الآخرين. صنعت عالمها الخاص، مملكتها التي لا يدخلها إلا من يستحق، لم تعد تلك الفتاة التي تنتظر الإنقاذ، بل أصبحت هي من تنقذ نفسها.

ومن هنا، رسالة لكل من ظن أن الخذلان هو النهاية: لا تجعل الحزن يسرق منك نفسك، لا تتوقف، لا تنكسر. إن كنتَ ستعيش، فلتعش ملكًا في مملكتك، بدلًا من أن تكون تابعًا في حياة الآخرين.


ك/ مريم سعيد "حبيسة الماضي"

إرسال تعليق

أفرحنا بتعليقك هنا

أحدث أقدم