الجذور التي لا تموت
لكن ذات يوم، توقفت الرسائل. انتظرت ليلى، يومًا بعد يوم، ولكن لم يصلها شيء. شعرت بالخوف والقلق، فقررت العودة إلى قريتها. عندما وصلت، وجدت الكوخ صامتًا، والحديقة مهملة. أخبرها الجيران أن جدها قد مرض فجأة ونقل إلى المستشفى في المدينة. ركضت ليلى كالمجنونة إلى المستشفى، ولكن الأوان كان قد فات. وجدته مستلقيًا بلا حراك. كان بجانبه دفتر صغير، كتبه لها في أيامه الأخيرة. كانت الصفحة الأولى تحمل عبارة: "ليلى، كنتِ أغلى ما أملك، وأنتِ دائمًا الحلم الذي تحقق.
انهارت ليلى بالبكاء، وشعرت بأنها فقدت نصف روحها. بعد أشهر من الحزن، قررت ليلى أن تحوّل ألمها إلى فن. فتحت معرضًا صغيرًا في القرية يحمل اسم جدها، وعلقت فيه كل اللوحات التي رسمتها مستلهمة من ذكرياتها معه. أصبح المعرض مكانًا مليئًا بالحب والدفء، يزوره الناس من كل مكان ليتعرفوا على قصة الجدّ وحفيدته. رغم الفقد والبعد، وجدت ليلى أن الحب الحقيقي لا يضيع، بل يبقى حيًا في القلوب، يرشدنا، ويمنحنا القوة للاستمرار. بعد افتتاح المعرض في القرية، أصبحت ليلى تستقبل زوارًا من مختلف الأماكن. كان الناس يقفون أمام لوحاتها طويلاً، يتأملون الألوان التي رسمت بها مشاعرها، والأماكن التي عاشتها مع جدها. كثيرون كانوا يبكون بصمت، يشعرون أنهم يلمسون شيئًا من ذكرياتهم الخاصة. وذات يوم، أثناء انشغال ليلى بإعادة ترتيب اللوحات، دخل رجل مسن إلى المعرض. بدا وكأنه يعرف كل لوحة عن قرب، وكأنها ليست غريبة عليه. اقترب منها وقال بصوت مبحوح: "كنت أعرف جدك جيدًا. كنتما دائمًا معًا، كأنكما روح واحدة. كنت أراه يرسم مستقبلك بحديثه عنك." تفاجأت ليلى وسألته عن علاقته بجدها، فأخبرها أنه كان صديقه الأقرب، وأنهما كانا يتحدثان كثيرًا عن أحلامهما. أخرج الرجل شيئًا من جيبه، مغلفًا قديمًا بلون بني، وقال: "جدك طلب مني أن أسلمك هذا إذا مررت بالمعرض يومًا."
فتحت ليلى المغلف بأصابع مرتجفة. وجدت داخله خطابًا كتبه جدها بخط يده، يقول فيه: "ليلى، إذا كنتِ تقرئين هذا، فأنا متأكد أنكِ حولتِ الألم إلى أمل، والخسارة إلى إبداع. لا تدعي الحزن يسكن قلبك طويلاً يا صغيرتي. أنتِ زهرة زرعتها الحياة لتزهر في أي مكان تذهبين إليه. واصلِي، فالعالم ينتظر أن يرى ألوانك." غرقت عيناها بالدموع، لكنها شعرت بدفء غريب، كأن جدها ما زال بجانبها. بعد ذلك، قررت أن توسع المعرض ليشمل كل من فقد شخصًا عزيزًا. خصصت زاوية للزوار ليتركوا فيها رسائلهم أو صورهم أو كلماتهم الموجهة لأحبائهم. سرعان ما أصبح المعرض مزارًا لمن يريد أن يعبر عن شوقه أو حنينه. وفي أحد الأيام، وبينما كانت تقرأ الرسائل التي يتركها الناس، وجدت واحدة مكتوبة بخط طفولي. كان مضمونها: "أمي، أتمنى لو كنتِ هنا لترين كم أحب الرسم.
هل ستعودين قريبًا؟" تأثرت ليلى بشدة، وأخذت تبحث عن الطفل الذي كتبها. اكتشفت أنه يعيش مع جدته بعد فقد أمه في حادث. قررت أن تأخذه تحت جناحها، تعلمه الرسم، وتمنحه فرصة التعبير عن مشاعره بالألوان، تمامًا كما فعل جدها معها يومًا. أصبح الطفل "سامي" جزءًا من حياتها، ومع الوقت شعرت ليلى بأنها لم تفقد جدها بالكامل، بل وجدته في حبها لهذا الطفل وفي استمرار رسالتها. وفي إحدى الأمسيات، وبينما كانت تغلق أبواب المعرض، نظرت إلى السماء وقالت: "جدّي، أعدك أن أنشر الأمل، كما علمتني. لن أنسى أن الحياة رحلة مليئة بالمحطات، وكل فقد هو بداية جديدة.
وهكذا، استمرت ليلى في طريقها الطويل، محاطة بذكريات جدها، تنير دربها، وتحول الحزن إلى شعلة لا تنطفئ. وفي يوم مشرق من أيام الربيع، وبينما كانت ليلى تجلس في حديقة المعرض محاطة بألوان الطبيعة، اقترب منها سامي يحمل لوحة رسمها بنفسه. كانت اللوحة صورة لرجل مسن يجلس تحت شجرة، يحمل كتابًا بين يديه، وطفلة صغيرة تجلس بجانبه، تبتسم. قال سامي بحماس: "هذه لكِ، أعتقد أن هذا هو جدك، أليس كذلك؟" شعرت ليلى بالدهشة، وعيناها امتلأتا بالدموع مجددًا. ضمته إليها وقالت: "نعم، هذا هو جدي... وهو هنا دائمًا، في كل لحظة وفي كل لوحة." نظرت إلى اللوحة مجددًا، ثم علقتها في قلب المعرض، لتكون آخر لوحة يرى الزوار جمالها قبل مغادرتهم، وأطلقت عليها اسم: "الجذور التي لا تموت". وهكذا، استمر المعرض في نشر الحب والأمل، وصار ذكرى خالدة لجدها وكل من فقدوا أحباءهم، وأصبح رسالة بأن الفقد ليس نهاية... بل بداية لقصة جديدة.