أنا لا أنجو أنا فقط أُحاول
هو يُحاول، يُحاول أن يستجمع ما تبقّى منه، بعدما فقد أكثر مما يسَع قلبه أن يحتمل، يُحاول أن يُقنع ذاته بأن القادم سيكون أفضل، رغم أن الحاضر لا يرحمه، يُحاول أن ينهض كلما سقط، وإن كانت ساقاه لا تقويان على حمله، يُحاول أن يبتسم، بينما وجهه المعتاد لم يعُد يعرف سوى الذبول، هو لا يُريد شيئًا كبيرًا، لا يسعى لأن يُصفّق له العالم، كل ما أراده هو لحظة هدوء؛ لحظة لا يُؤلمه فيها شيء، لا داخله، ولا من حوله، لحظة يشعر فيها أنه حي، لا لأنه فقط يتنفس؛ بل لأنه يستحق أن يعيش، هو يُحاول أن يسير في حياةٍ لم تختر له سوى الطُرق الوعرة، أُجبر على النضج حين كان كل ما يريده أن يكون طفلًا، وأُجبر على التحمّل، حين لم يكُن في قلبه متّسع للوجع، وأُجبر على النسيان، حين لم يكن مستعدًا للفقد، كان يسأل نفسه في الليالي الصامتة: هل أنا حقًا بخير؟ لماذا تغيّر كل شيء بهذه السرعة؟ لماذا أشعر أنّني ضيفٌ في جسدي، غريبٌ عن روحي؟ لماذا، كلما اقتربت من النجاة، سحبني شيءٌ إلى القاع؟ هو يُحاول أن يُسامح نفسه على ضعفها، على كل مرة بكت فيها سرًا، على كل خيبة كتمها، وعلى كل شخصٍ أحبّه ثم خذله، يُحاول ألّا يُظهر انكساره، أن يظلّ صامتًا في حضرة من لا يفهمون، أن يُخفي الشروخ العميقة خلف جدارٍ من الكلمات العابرة، أن يقول: "لا بأس"، وهو لا يقوى على البقاء، هو لا يكره الحياة؛ لكنه فقد فيها نفسه، وضاع منه المعنى، فصار يتمسّك بالمحاولة كالغريق، لا لأنه يُريد النجاة؛ بل لأنه لا يعرف طريقًا آخر. هو يُحاول، يحاول أن يكتب ما لا يستطيع قوله، أن يصرخ بين السطور، أن يُخبّئ قلبه بين الكلمات؛ فإذا قرأ أحدهم النص وقال: "أنا أشعر بك"، أحسّ هو أخيرًا أنه لم يعُد وحيدًا. هو يُحاول، والمحاولة في حدّ ذاتها، بطولة صامتة، وصمت الأبطال، لا يسمعه إلا من كان منهم.
مريم سعيد "حبيسة الماضي"